درس في الاخلاق والثقافة
درس في الاخلاق والثقافة
عراق العروبة
مهدي شاكر العبيدي
بين يدي ثلاثة كتب بلْ ثلاثة مراجع يتوفر كل منها على تناول جانب من سيرة الرحالة المصري والسياسي والطيار ومكتشف الواحات في الصحراء الغربية أحمد حسنين باشا نجل عالم مجتهد من شيوخ الأزهر وحفيد قائد محنك من قادة الجيش وأمير البحر فيه أثناء ما سلف من سنوات بعيدة لعلـه لم يشهدها أو يعايشها في شبيبته وفتوته .
فأما الأول فهو (قصة ملك باع في أيامه الأخيرة نفسه للشيطان) ألفه حلمي سلام من هيئة تحرير مجلة (المصور) ، عزا في صفحاته الأوَل إلى هذا الرجل الذي كان على شيءٍ من الفهم واللباقة والخبرة بالطبائع والنفوذ إلى دخائل النفوس وحسن التعامل مع ذويها ، تبعة ما وقع فيه الملك فاروق من مهاو ٍ وسقطات أو تردى إليه من مباذل وموبقات ، فقد اصطحبه ورافقه أيام إقامته بانجلترا ليُتِم تعليمه في معاهدها صادعا ً بإمرة والده الملك فؤاد ، وهو بعد فتىً طري العود وغير مستطيع كبح غرائزه والسيطرة على أهوائه ونزواته ، وغاية هذا المؤتمن على تسديد خطوات هذا الأمير الشاب وأخذه بحسن توجيهه ، وقد نكل بالعهد وفرط فيه ، أنْ يستولي عليه ويُسَيره بحسب رغباته ، محتسبا ً للمستقبل ألف حساب يوم يغدو فاروق ملكا ً وتناط بعاتقه المسؤوليات والوجائب ، فبوسعه الهيمنة على الشؤون والأحكام من وراء ستار ، وينوه المؤلف بإنشائه علاقة مريبة بأمه الملكة نازلي انتهَتْ بزواجه منها زواجا ً عرفيا ً بالسر على ما يغلو شانئوه وأنداده من الطعن والتغرض وبذر الشائعات حول تصرفاته .
والمرجع الثاني كتاب عنوانه (عمالقة وأقزام) من تأليف مصطفى أمين ومصنفاته الطريفة بمسمياتها ومحتوياتها ، وما تتناوله وتحيط به من غوامض الشؤون ودقائق الأسرار ، تختلف لهجته هذه المرة عن لهجة الكتاب السابق تماما ً من حيث ميلها لإنصافه والإشادة بمؤهـلاته وكفاياته ، ويمتدح تبسطه ودماثة أخلاقه وأنسه بأولاد الفقراء وسخريته من الأبهة الارستقراطية ، ويكفيه أنـه زهد في حياة القصور وآثر العيش فوق جمل ويمم وجهته صوب الصحراء المترامية مجتازا ً ” ثلاثة آلاف كيلو متر قـُطعَتْ على ظهور الإبل ، فوفق لاكتشاف واحتين ِ مجهولتين ِ ، هما اركنو والعوينات وكانتا غير معروفتين ِ قبل ذلك للجغرافيينَ ” ، وصحبته في رحلته الأولى حسناء بريطانية تدعى روزيتا فوربس زعمَتْ غب عودتها بين قومها انـه سكرتيرها وتابع لها أو انـها وحدها صاحبة الرحلة فلم يرد عليها ويفند تخرصها بغير الصمت ، حتى إذا شرع برحلته الثانية واكتشف الواحتين ِ المذكورتين ِ ، هلل العالم بأجمعه للمكتشف المصري وأنعم عليه بالأوسمة والمداليات الذهبية جاءَته تترى من بريطانيا وفرنسا وأقطار أمريكا ، وأقامَتْ الجمعية البريطانية الجغرافية حفلة عظيمة تجاوبَتْ فيها الكلمات والخطب ، وكان من حُضارها الفاتنة البريطانية التي أقبلتْ نحوه وهي تنتحب فظن أصدقاؤه أنـها نادمة ، فلم يشأ تبكيتَ هذه السيدة المهزومة وتجريحها وأغضى عن مفترياتها وتقولاتها .
ويعدو مصطفى أمين هذا الحد من التفصيل في مغامراته واعتياده ألفة الحتوف والمخاوف وركوب الأهوال والمخاطر إلى الإطناب حول زهده وعفته ومعرفته بالتيارات والاتجاهات بحكم ما تبوأه من مناصب ومراتب في الدولة وآخرها رئاسة الديوان الملكي وما يضفي عليه وقتذاك من أهمية ومكانة ، وقبلها حظي بتحية سيد شعراء وادي النيل أحمد شوقي الذي أكبر جرأته واطراحه الخوف والتهيب من اجتياز الصحراء ومغالبة ما فيها من وحوش وضوار ، علما ً أنـه أمضى إحدى الليالي نائما ً في خيمة منصوبة وسط تلك البوادي الموحشة وإلى جواره رفيقته الحسناء الانجليزية فما اقترب الشيطان منهما ولا كان ثالثهما ، على ما حدثني به أديب فاضل هنا ببغداد ، فلنا أنْ نتبين قوة إيمانه بالله وأخذه بشيءٍ من التصوف في سلوكه وتصرفه ” حتى أنـه يتوه في الصحراء عدة مرات فلا ييأس ويثور عليه رجال قافلته فلا يتقهقر وتقاومه العواصف والرياح فلا يلين ، وتتحطم به طيارتان فيركب الثالثة ” .
يتبقى لدينا بعد هذا التعريف العجلان والموجز المرجع الأخير والثالث أعني به كتاب (زكي مبارك ناقدا ً) ، وهو مجموعة من الدراسات والنقدات كتبها الكاتب الراحل ونشرها بمجلة (الرسالة) ابتدءا ً من سنة 1940م ، وتولتْ ابنته الدكتورة كريمة زكي مبارك جمعها وتنسيقها وترتيبها كتابا ً بهذا العنوان الموهم بكونه دراسة تحليلية مفصلة لنتاجاته ، ويعقبه ممهورا ً على الغلاف والصفحة التالية جملة توضيحية تفيد أنـها دراسات نقدية تنشر للمرة الأولى وكاتبها هو زكي مبارك نفسه ، لكنـها نـُشرَتْ قبلا ً .
يحتوي هذا الأثر النفيس على جولات ونظرات وانطباعات حول طائفة من الكتب الصادرة بمصر أوانذاك لأشهر المؤلفين وجهابذة الرأي والتفكير والسياسة ممن جعل المؤلف القدير وكده مناكدتهم ومصاولتهم وافتعال معارك نقدية لا تنكر فاعليتها في إنعاش الجو الأدبي وتحريك الراكد من القرائح والفهوم .
وما كتبه الراحل زكي مبارك بخصوص أحمد حسنين باشا مقالة بصدد كتابه ذي الأربعمائة صفحة وفيها كثير من الرسوم العلمية والجغرافية أتى فيها على تنقلاته في صحراء ليبيا متجشما ً المتاعب والمكاره ، ومعرضا ً نفسه لكثير من المعضلات والأخطار ، وفي فصوله جميعا ً تسجيل لما لوالده عليه من دالة في تنشئته وتهذيبه وتزويده في رحلته بالبخور والدعوات الصالحات ، فلا مراء أنْ أعرب عن فجيعته لوفاته بعبارات طافحة بالشجو والألم ، ليخلص منها إلى تقديم نصائح مفيدة لمَنْ ينتوون المغامرة واختراق الصحراء مواجهينَ الشرور ومكايد الأعراب المتشردين والمبثوثين فيها ، ثم يعرج على السنوسيين وما شُهر عنهم من زهد وعبادة وتصوف جاريا ً على أصول وقواعد علمية ، فلاغرو أنْ أطنب أحمد لطفي السيد في تقديمه لهذا السفر في اشتماله على الفوائد الفكرية .
وكذا يجلوه زكي مبارك هذه المرة مؤلفا ً ويسلكه في عداد الكـُتـاب علما ً أنـه أنشأه أول مرة بالانجليزية وترجمه بنفسه إلى العربية ، ورغم اعتقاده بكون صاحبه ليس من أصحاب الأساليب والبيان المشحوذ ، فإنـه يكبر اشتماله على الضافي من التوهـج والعفوية واجتذاب القراء للانغمار في صفحاته ، وما سر ذلك إلا منبعثا ً من مجانبته التكلف والانتحال وترسله بوحي الطبع والفطرة .
والمقالة بعد مكتوبة في شهر كانون الأول سنة 1940م ، يوم رقى الباشا منصب رئاسة الديوان الملكي في تموز من السنة نفسها ، فهل أقحم المؤلف نفسه في عداد المقبلينَ على ذوي الجاه والمكانة طمعا ً في جداهم وأعطياتهم وأنـه واحد من الكـُتـاب الذين نوه بهم حلمي سلام مؤلف السفر الأول مستهجنا ً تسخيرهم أقلامهم لتزييف الحقائق وافتعال كواذب القصص والروايات عن تعفف موهوم يوسم به الأراذل والمفسدون ؟ .
واقع الحال ينبئنا ويحملنا على الاستنتاج بله التسليم بكل طواعية وإذعان إن زكي مبارك أبعدُ وأعف عن مباينة جوهره الحقيقي ومفارقة رجولته القوية المتماسكة والمتأبية على الدنايا والصغار وهو القروي الدارج على عِياف الدجل والمراء هذا إلى نفحات الصدق التي تغلب على سائر نتاجاته وكتاباته ، وما ذلك إلا لأنـه كان على جانب كبير من رهافة الحس وذكاء الوجدان .
والخلاصة أنـنا وقفنا عند ماجريات حياة شخصية مؤثرة في الحياة المصرية اجتماعيا ً وسياسيا ً لا سِيما خلال النصف الأول من القرن الفائت ، وتواتت له المواهب والقابليات المتنوعة وامتازَتْ بفورة النشاط والحيوية وحب المغامرة ، لم تعهد من نفسها ميلا ً للتواكل والانخذال والتراجع أمام أعقد الصعاب والمعاضل ، بلْ غالبَتْ اليأس والاستكانة ولم تتعب من مواجهة دهاة السياسة والثبات إزاء مكرهم وكيدهم ، إنـما يفوقهم ويرجح عليهم في فهمه وثقافته واطلاعه على أروع ما سجلته وأبدعته قرائح الشعراء الخالدين في أدبنا وآداب الإنسانية عامة .
وحسبك أنْ تطلع على إلمامه برائعة الشاعر الإنجليزي كبلنج منذ سنة 1912م ، وقد ترجمها بنفسه أثناء دراسته في أكسفورد وقد قرأها آلاف المرات متوخيا ً أنْ يسير في حياته على هداها جهد الإمكان ويُكيف سلوكه على منوالها ، جاعلا ً من وصيته لأصفيائه وعشرائه دروسا في الثبات والصبر على بأساء الحياة بأمل ان تنجاب ظلماتها وغواشيها، على ما يشاع عن رجعيته وذوده عن مظالم الفئات المستعلية الراتعة في الغنى واليسار .
تتوزع هذه الفلذة في مقاطع صغيرة يستهل كل منها بأداة الشرط (إذا) حتى إذا أفرغ جماع ما كان في نيته استحثاثك وحفزك لتأمله وتدبره من المفارقات والنقائض ، انتهى بك إلى القول القاطع لكل تردد وحيرة وتنازع في الاهتداء أو الإمساك بالجواب الصحيح ، وهو جواب في غاية البساطة والعادية غير أنـه أشمل في إيماءاته على الذرا العالية التي يمكن أنْ تبلغها وترتقيها إذا صح العزم واستمكنتْ الثقة :ـ
• إذا استقبلتَ النصر كما تستقبل الهزيمة سواءً بسواء .
• إذا استطعْتَ أنْ تتحمل نتيجة أعمالك ، وأنْ تشهد المعول يهدم كل ما كرسْتَ من أجله حياتك ، وتنحني لتبني من جديد ما تهدم .
• إذا استطعْتَ أنْ تجعل من كل انتصاراتك نصرا ً واحدا ً ، ثم تقامر وتفقده ، ثم تعود وتبدأ من جديد بغير أنْ تتحسر على ما فقدْتَ وتعبْتَ .
• إذا صبرْتَ في وقت لا تملك فيه سوى إرادتك تصرخ فيك وتهيب بك أنْ تتماسك .
• إذا استطعْتَ أنْ تملأ فراغ كل دقيقة في حياتك بالعمل ، وإذا كانتْ كل ثانية في حياتك تمضي في جهد مفيد .
• إذا استطعْتَ أنْ تفعل ذلك كلـه ملكتَ الأرض وما عليها ، وأصبحت أكثر من ذلك ، أصبحْتَ رجلا ً يا ولدي .
1ـ شذرات منقولة عن كتاب (عمالقة وأقزام) ، صفحة (102) ، على أني وجدْتُ القصيدة بالتمام في فاتحة الجزء الثاني من كتاب (أوراق لبنانية) لمؤلفه رئيس دولة لبنان الأسبق بشارة الخوري ، وبالترجمة عينها ولا ثمة خروج واختلاف في عباراتها دونما أي إشارة إلى ذلك .
0 التعليقات: