أخر الأخبار

.

في ذكرى السياب أبرز شعراء الحداثة في العراق : أولو الفضل في أوطانِهم غرباء



في ذكرى السياب أبرز شعراء الحداثة في العراق : أولو الفضل في أوطانِهم غرباء



عراق العروبة
عبدالواحد لؤلؤة




ما أبلغَ حكمة المعرّي (73 ـ 1057) في هذه القصيدة، كما في غيرها، وهو الشاعر البصير الذي رأى ما لم يستطِع المبصِرون أن يَرَوه من أحوال الناس في هذا العالم، سواءً في أيامه ، وهو رهين المحبسَين، أو في هذه الأيام اللاتوصف ، في بلادنا العربية. “تشِذّ وتنأى عنهمُ القُرَباءُ”. هكذا يرى هذا البصير المُبصِر. وقد لجّ هذا البيت من قصيدة المعرّي على ذاكرتي في هذه الأيام التي يستعد السُعَداءُ فيها لأعياد الميلاد، مسيحيين كانوا أو مسلمين، متعاطفين مع جيرانهم المسيحيين، كما كنا نفعل في العراق، وخاصة في الموصل، التي يشكّل المسيحيون فيها حوالي 30 في المئة، في بعض المراجع الإحصائية .

ما الذي يثيره فيّ شخصياً تاريخ ميلاد السيد المسيح ؟ دفعاً لأية تُهمة بالسوداوية، أقول إنه كذلك تاريخ رحيل أبرز شعراء الحداثة في العراق، والعالم العربي: بدر شاكر السياب (1926 ـ 1964). وقد كان الشاعر يرقد في المستشفى الأميري في الكويت، وقد أقعده المرض الذي حلّ بعموده الفقري، وعطّل حركته، لكنه لم ينقطع عن كتابة الشعر، قصائد في أيامه الأخيرة، هي التفجُّع المراسيمي في أحلك صُوَره . “غريب على الخليج” هي صورة شاعر من أولي الفضل في تطوير الشعر العربي في العراق، تطويراً امتدا إلى بلاد العُرب أوطاني . لكنه قضى نحبه كمن “تَشِذّ وتنأى عنهم القُرَباء”. لماذا لم يتيسَّر لشاعر من أولي الفضل من يُعنى به في مرضه، من القرَباء الذين كانوا وما زالوا يُكبِرون فيه موهبة شعرية نادرة، وبعضُهم كان في مواقع مسؤولة في الدولة، لم يتوانوا يوماً في رعاية “فنانين” و”زَحافِطة” كلُّهم “زَحفَطون” أي من الزاحفين على البطون . لقد “استوردَ” المسؤولون يوماً، من بلد عربي شقيق، صحافياً على أمل أن يقيم لنا مؤسسة سياحية تجعل من البلد مقصداً للأجانب من أصحاب الملايين . فتمخّض جهده عن إقامة “وكر للتسلية والخدمات الخاصة” يقصده كبار المسؤولين في البلاد . أما الملايين التي أُنفِقت على ذلك الزَحفَطون فهي مما لا يخضع للمساءلة ! مرة كنت في الطائرة الذاهبة إلى فرانكفورت، ذات صيف، وكانت الطائرة مكتظة بالسياح . كان في المقعد خلفي مباشرة رجل غزير الشوارب وفي حضنه طفل في حدود السادسة، لم ينقطع عن الضجيج ورفس ظهر مقعدي في الطائرة. حاولتُ إقناع الرجل لمحاولة السيطرة على ذلك الطفل. فقال ببساطة: “لا أستطيع. هذا ابن فلان الفستَكاني الوزير الفلاني، والطفل به “رعّيصة” فقررت الدولة إرساله إلى ألمانيا للعلاج من “الرعّيصة ـ الصرع” على نفقتها، إكراماً لنضالِ والدِه. ما شاء الله! أما علاج شاعر من أولي الفضل، فمن الأمور التي تتطلب قرارات من اللجان الخاصة، وقد تنتهي بالاعتذار، لعدم انطباق القوانين عليها !

لكن الشاعر الفذّ لم ينل اهتماماً من “القُرباء” بل من أشباههم: أصدقاء جاءوا للإقامة والعيش في عراقٍ أحبّوه: الفلسطينيان: جبرا إبراهيم جبرا، الأديب الكبير، والدكتور علي كمال. استطاع جبرا توفير منحة دراسية لبدر، ليذهب إلى جامعة دَرَم، على أمل الحصول على علاج في مستشفيات بريطانيا، وكان الدكتور علي كمال، بمعرفته بالزملاء الكثار في مجال الطب والعلاج، قد وفر لبدر ما استطاع من علاج طبّي، لكن الشاعر لم ينسجم مع جامعة دَرَم، وسرعان ما عاد خائب الأمل .

وثمة آخر الشعراء الكبار في العراق : مظفّر النواب، الذي اجتمعت به آخر مرة في احتفالية بكبار الشعراء العرب، في دمشق، عام 2009. كان يعاني صعوبة في الحركة والمشي، يعينُه شاب عراقي في حركته وانتقاله . وما لبث أن سمعنا أن الشاعر قد أصيب بمرض “باركنسن” مما أقعدَه عن الحركة تماماً. في اجتماعنا بدمشق استأذنته أن أتَرجم إلى الإنكليزية مختارات من شعره، فوافق مشكوراً. ولم أستطع الاتصال به بالهاتف أو الايميل لمدة طويلة، حتى علمتُ أنه يرقد في مستشفى الجامعة في الشارقة، حيث يتلقّى العناية برعاية الشيخ سلطان القاسمي، تطوعاً وكرماً عربيا أصيلا . فالرجل مثقف، يحمل الدكتوراه في التاريخ من جامعة “اكسيتر” على ما أذكر، وقد أهداني ثلاثة من كتبه في موضوعات عن تاريخ منطقة الخليج العربي. وقد أرجَفَ بعض ضعافِ النفوس أن رعاية الشيخ الخليجي لشاعر لم يسلم من لسانه شيوخ الخليج، لم تكن بالمجان. ولكني أعرف رعاية الشيخ للمثقفين والشعراء منهم بخاصة، مما يجعل رعايته لشاعر كبير تقطّعت به السُبل مثالاً للكَرَم العربي الأصيل .

لم ينَل بدر في حياته الرعاية التي يستحقها في بلده الذي ما انفك يترنّم بحبه، ويتشوق للعودة إليه من مُغتَرَبه الإضطراري في الكويت. “وهل يعود/من كان تُعوزُه النقود” هي الحسرة التي يجب أن يخجل لدى سماعها كل مسؤول في بلد الشاعر. تفجّع الشاعر وحنينه الدائم للعراق في أيام مرضه في الكويت برعاية “غير القُرباء” هي المرارة في لَهاة كل محبٍّ للشعر، في الأزمان جميعاً. وبعد دفن الشاعر في مقبرة في الزبير، شاع الخبر في حلقات الأدباء الذين لم يكن في وسعهم سوى الترَحُّم على الفقيد، وكتابة مقال هنا وآخر هناك، للإشادة بشاعر العراق الكبير الذي لا يُنتَظر ظهور مثيله بعد عقود القحط الثقافي في العراق .

في “مرثية في مقبرة ريفية” للشاعر الإنكليزي توماس غراي (1816 ـ 1771) يتساءل الشاعر بحُرقة إن كان هذا التمثال النصفي، المقام عند قبر ذلك الشاعر الذي لم يعرف السعادة في حياته، يمكن أن يكون اعترافاً بالفضل! لكن بدراً أقيم له تمثال كامل بعد رحيله بكثير، وهو تمثال بارع، لكنه أقيم في مواجهة بنك رئيس، في مدينته، البصرة .

هل كان عدلاً أن يُقام ذلك التمثال في مواجهة “من كان تُعوزُه النقود”؟! أنا أعرف أن مستحقات بدر من نشر أعماله لم تكن تُرسلُ إليه إلا بعد وساطات من فاعلي الخير! هل كان على أولي الفضل أن يعانوا من شظف العيش ؟

كانت آخر مرة رأيتُ فيها الشاعر في “باص الأمانة” النازل في شارع الرشيد، ببغداد، آخر أيام الخير! كان ذلك في أوائل عام 1958. قلتُ له: يا بدر، أنا مدين لك باعتذار، ولو متأخراً. لقد عدتُ من جامعة هارفرد الأمريكية، وفي منطقة بوستن جالية سورية ـ لبنانية كبيرة، أغلب أفرادها يملكون شركات تجارية لديها محطة إذاعة محلية تروّج لتجارتها، لكن أولئك السوريين ـ اللبنانيين يحبّون الشعر والغناء ويروّجون للثقافة العربية في مناهج إذاعاتهم . مرة طلبوا مني أن أقدِّم حديثا بالإنكليزية، في إحدى إذاعاتهم، عن الشعر العراقي. فقدّمت حديثا عن شعرك، وكان يجب أن استأذن منك. قال: هذا لطفٌ منك. غيرك يسرق شعري أو ينشره دون استئذان ولا يدفع لي أي مكافأة . قال هذا ونزل في موقف “المْرَبْعَة”. ولم أرَه ُبعدها .

في مقال لكاتب مغربي نشر مؤخَّراً في “القدس العربي” نوع من الشكوى أن شعرنا العربي الحديث ، خصوصاً ، به حاجة كبيرة للترجمة إلى لغات عالمية لكي يجد طريقه إلى العالمية . 

هل لي أن أفيد الأستاذ المغربي ، بعيداً عن التفاخر الأجوف، أنني منذ أن بدأت “التقاعد الناشط” والإقامة في كمبرج، نشرت تسعة كتب بالإنكليزية عن أدبنا المعاصر، خلال هذه السنوات السِتّ . منها كتابان عن شعر سميح القاسم، وسيرته الشخصية التي تقدم وصفاً لحياة المثقف والشاعر تحت الاحتلال في فلسطين، وكتاب من المختارات من شعر عبد الرزاق عبد الواحد، وكتاب من المختارات من شعر مظفر النوّاب ، وقد نُشرت جميعا في نيويورك ولندن، وقريبا يصدر من لندن مختارات من شعر السيّاب . ولم يكن إيجاد ناشر لشعر فلسطيني وعراقي مسألة سهلة، لأني كنت متحسِّبا من المواقف المعروفة من العرب وثقافتهم. لكنني بقيت أعاند، حتى تيسّر لي أن أقدم هذه المساهمة المتواضعة في خدمة أدبنا المعاصر .

0 التعليقات: