أخر الأخبار

.

صديقي الذي أجهل اسم أبيه


صديقي الذي أجهل اسم أبيه !


عراق العروبة
مهدي شاكر العبيدي



قد يكون اليوم مريضا ً ومقعدا ً وملازما ً بيته لا يبرحه إن لم يغادر هذه الدنيا ويعفي ذاته من كروبها وأوصابها ، فقد تعرفت عليه وارتبطت أسبابي به قبل ما يزيد على ستة عقود ، منذ كان موظفا ً بسيطا ً يدير مكتبة دار المعلمين بالأعظمية ويغري الطلبة بالإقبال عليها والاستعارة منها ، وكنت واحدا ً منهم حين أوشك العام 1950م ، أن ينقضي دون أن يهمني التعرف على اسم والده ـ وهذا أمر مدهش في تكوين الصداقات والصلات الحميمة – وحسبي مناداته بالسيد شوقي حين أبغي استعارة كتاب ما ، وكان على ما يبدو مشغوفا ً بالقراءة ، عارفا ً بما تنطوي عليه الكتب من الحقائق والأسرار ، وأذكر مرة ً أنـه نهاني عن تداول أي أثر لميخائيل نعيمة مدعيا ً أن نتاجه الأدبي آخذٌ بقدر من التجريد والابتعاد عن هموم الناس ، فهو من أشياع نظرية الفن للفن بدلا ً من تطويعه في سبيل الحياة ، الطريف أنـي بعد سنوات وقفت على هذه الملاحظة النقدية لأدب الكاتب من لدن باحث مصري يتبنى المذهب الواقعي ، ويدعو لتسخير الأدب في سبيل محو الفقر والجهل والمرض ، وإزالة هذه الأدواء من وجه الحياة ومن حياة الناس .

اعتدت خلال السنوات التالية وحين ألم ببغداد وافدا ً إليها من خارجها أن أزوره بين آونة وأخرى حين يتسع الوقت وتفرغ النفس من تمضية بعض الأشغال ، وفي إحدى المرات علمت أنـه أوقف صيف 1953م ، لاشتراكه في تظاهرة وطنية اخترقت شارع الرشيد استنكارا ً لقدوم شاه إيران ولياذه بحكام بغداد في ظروف تأميم الدكتور محمد مصدق لثروة بلاده النفطية ، والظاهر أنـه واجه في التوقيف الذي استغرق أشهرا ً أنماطا ً متباينة من الناس ، لا عهد له بأطوارهم وأمزجتهم ، أو تعلم من هذه التجربة العارضة درسا ً عن تواني من يعرفهم من الأناسي في إغاثته وعونه ، وربما خشي عواقب المستقبل وما يجر وراءه من نوائب أفدح وأجسم ، فخاف وآلى على نفسه أن يقطع صلته بالنضال ، واضعا ً حدا ً لعلائقه بالموسميين والمكابرين والثراثرة من المشتغلين بالسياسة وهواتها ، وأحسبه كان مصيبا ً ومنصفا ً حيال ذاته ما دام في أول الدرب وله أسوة بالشيخ عبد الحسين الجواهري الذي حكى عنه نجله الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري أنـه كان يغني ثم خاف وترك الميدان .

وكذا توالت استعاراتي من المكتبة العتيدة للدوريات والمؤلفات التي يغلب عليها الطابع التقدمي بتوجيه وإرشاد منه ، وبحسب مواصفات ذلك الزمن كمجاميع مجلة (المجلة) التي صدرت في الموصل أيام الحرب العالمية الثانية ، ودأبت على التنديد بالفاشية والحرب ، وأخطرها كتاب (تاريخ الحركات السرية الهدامة) لمؤلفه محمد عبد الله عنان تناول فيه على شاكلة المستشرقين الروس حركات القرامطة والزنج والحشاشين في التاريخ الإسلامي ، وثورة الأقنان والعبيد المسماة في تاريخ الرومان بثورة سبارتكوس ، وحين تعينت معلما ً في إحدى مدارس قصبة الهندية ، فإن أول ما وجهت نظري له مكتبة المدرسة المتواضعة ، وسألت عما إذا كانت تحتوي على مؤلفات لمحمد عبد الله عنان ، حملق بوجهي الشيخ المدير وهو رجل مستنير وشاعر مقل ، و لاهج دوماً بحمد من أسدى إليه صنيعة ذات يوم ، و من ذلك ثناؤه و اطراؤه شخص الدكتور محمد فاضل الجمالي استاذه بمعهد اعداد المعلمين عام 1927م ، و من رأيه أن لو قنع بتحصيله من علوم التربية من وراء بعثته إلى جامعة أمريكية و لم ينجر إلى العمل السياسي لأسدى لبلده من الآلاء و الأفضال ما يجانب به الانكار و الجحود ، فلا غرو أن أبدى دهشته لإحاطتي بحياة هذا الكاتب وآثاره والذي يعده ـ بحسب تعبيره الذي أتذكره جيدا ً ـ أول من شتم فيصلا ً ، وحذر العراقيين من تنصيبه ملكا ً وإيلائه الثقة ، ولم اتقر هذه الحقيقة في مصدر ثبت بعد ذلك ، وجل ما أعرفه عن محمد عبد الله عنان ـ من خلال كتابات سلامة موسى ـ أنـه تقدم هو ونخبة من المتنورين ـ وعلى رأسهم هذا المفكر الحصيف ـ إلى الجهات المسؤولة بطلب إجازة حزب يساري متوق للابتلاء بمرض الطفولة اليميني ، فصدموا بمعارضة سعد زغلول ورفضه الطلب ذاك ، وسوى أنـه ترجم إلى العربية رسالة طه حسين العلمية عن فكر ابن خلدون ، ثم تحول وانقلب إلى باحث تراثي متعمق في نشأة الأزهر والآثار الأندلسية وحضارة العرب بعامة ، وانـه أقام بالمغرب زمنا ً منقـبا ً في مكتباته وخزائنه العلمية كعالم ومصنـف ، لكن لعنة التأسيس ظلت تطارده من لدن هذا الحزب أو ذاك من الأحزاب التي ظهرت في الساحة بعد حزبه المجهض بعقود ، مما لا يحيط به الحزبيون من كل صنف ولون ، وحين مات محمد عبد الله عنان في عام 1986م ، وقد شارف التسعين عاما ً نعاه كالعادة الراحل عبد القادر البراك إلى الوسط الثقافي مؤرخا ً وعالما ً ومحققا ً ومترجما ً ، وما ذاك إلا لأن للبراك الصحفي اتصالا ً بمصادر الأدب الحي ، قبل أن تسف الصحافة العراقية ويتهافت عليها الطارئون !.

وآخر لقاء لي بشوقي هذا المتنبئ بحوادث المستقبل وما تفرضه في حياة الناس من متغيرات كان في عام 1980م ، قبل أن تندلع شرارة الحرب مع إيران وفي مدخل شارع المأمون ، ونحن بانتظار الحافلة كل لوجهته ، قال مقسما ً ووجهه يرنو لتمثال الرصافي :ـ”وحق هذا الذي ظلمه الزمان ، وشرع ذوو الشأن يمجدونه بالتمثال ، وكأنـهم يعتذرون منه ، إنـنا في السنوات العشر القادمة سوف نجوع ولا نجد الأكل في السوق”، هكذا بلهجته البغدادية ذات البلاغة البسيطة بعد أن أبصر بأم عينيه توافد الأيدي العاملة المصرية التي تشتغل بأي شيء وسط ادعاء هذا بأنـه انتظم في الأزهر زمنا ً ، وازدهاء ذاك بأنه يحمل بكلوريوس تجارة ، وما عهدنا بمصر الثورة والنضال والصدق والحقيقة أن ينزل نفرٌ من بنيها لهذه الدرجة من الكذب والتدليس ، وهذه هي المرة الوحيدة التي أخطأ فيها شوقي بحدسه ، فقد شهدت سنوات الحرب التي أعقبت هذا اللقاء وفرة ً وانتعاشا ً في الأقوات والأرزاق لصرف الناس عن الاحتجاج على الحرب ، وكان يصدق لو علـقه بسنوات العقد التالي حيث فرض الحصار القاسي ، ولقي الناس منه ما لقوا ، سوى الانشغال ببناء مساجد الله ، وعناية المسؤولين بصحة الناس ، وإيصائهم بشرب العرق المختوم وتحديد أوقات بيعه .

0 التعليقات: