أخر الأخبار

.

حين سقطنا في العمى


حين سقطنا في العمى

عراق العروبة
مروان ياسين الدليمي




المشهد ذاته يتكرر في مكانين وزمنين مختلفين متباعدين،إلاّ أن تفسيرنا له اختلف تماما في المرتين،وانتقلنا في تقييمنا له من الاسود الى الابيض،من التخوين الى التبجيل ،من العمالة الى الوطنية. .! !

فمالذي جرى حتى تنحرف رؤيتنا بهذه الانعطافة الحادة،ولماذا الانزلاق الى التطرف ؟

دعونا نقرأ المشهدين بهدوء لنعرف مالذي يجمعها ومالذي يفرقهما، ولنبدأ على غيرما هو متّبع، بالمشهد الثاني الذي حدث في قلب العاصمة العراقية بغداد ، بالقرب من مرآب العَلَاوي صباح 6 تشرين الثاني(نوفمبر) 2019 ،حيث يظهر في مقطع فديو قصير انتشر على صفحات الفيس بوك اعداد كبيرة من شباب ورجال عراقيين يطاردون اليات عسكرية تحمل قوات امنية عراقية ترتدي الزي العسكري ويقذفونها بالحجارة وبغيرها.

بينما المشهد الاول سبق ان حدث في الموصل،بنفس تفاصيله،ولكن عام 2014 ،لا فرق بين المشهدين،نفس العناصر،نفس الشَعب،نفس الموقف،نفس الاسباب هي دفعت المتظاهرين في كلا المشهدين الى مهاجمة القوة العسكرية الرسمية بعد ان وجدوها قد خذلتهم في لحظة المحنة فتخلت عنهم وجرحت كرامتهم الوطنية ،وكأننا امام دورة سريعة جدا لعجلة التاريخ تضعنا امام انفسنا حتى نحاسبها ونخرج بنتائج مثمرة تعيننا في ايامنا القادمة،فلانقع في الفخ اكثر من مرة .

مالذي يجعلنا نرى المنتفضين في مشهد عام 2019 ابطالا،بينما سبق لنا وصفناهم بالخونة في مشهد 2014 مع ان الموقف واحد في كلا المشهدين ؟

إن عقولنا التي نهشتها فيروسات خطاب السلطة الطائفي واصابت عيوننا وبصيرتنا بالعمى هي التي تقف وراء ازدواجيتنا ،فنرى ذات الموقف مرة اسود ومرة ابيض،ونرى شخوصه مرة شياطين ومرة ملائكة.



اصبحنا بسبب اعلام السلطة الطائفي الذي زيف حياتنا وسممها،لانسمي الاشياء بمسمياتها ، ولانراها على حقيقتها وباسبابها والظروف المحيط بها، فبتنا نحكم عليها بالمطلق ، حكما واحدا، دون تمييز، دون ان نتحصن بالحكمة والعقل ونتقصى عنها.


ربما نِصفُ الشعب العراقي طيلة الاعوام الماضية لم يختبر حقيقة الاجهزة الامنية ، ومدى مايستشري فيها من فساد في كافة مؤسساتها ، الى ان انتفض الشباب في الاول من اكتوبر، وكشف الغطاء عنها ، وعن هذه المعضلة التي تنخر هذا الجسد الامني ، الذي نحتمي به و تحتمي به انظمتنا ، فالاساليب التي لجأ اليها في مواجهة المتظاهرين السلميين عرّته من ورقة التوت الوطنية التي طالما تستر بها تحت ذريعة محاربة الارهاب والارهابيين ، وفضحته قسوته ووحشيته التي يستمد منها شرعيته لدى الانظمة المتعاقبة ، فهو ذراعها الغاشمة التي تطال اي صوت مهما كان وطنيا وسلميا ، لتنزل عليه غضبها وقسوتها ، ولولاه لما استبدت الانظمة ، واستهترت بحقوق العراقيين ، وقضت على احلامهم جيلا بعد جيل في ان يعيشوا معززين مكرمين في وطنهم، ولولاه لما هاجروا واغتربوا، ولولاه لما مات الكثير منهم من الحسرة والكمد، ولولاه لما تجرأ النظام ان يشيطن مدنا بسكانها ويوصمهم بالخونة والدواعش لانهم خرجوا ضد بذاءة ودناءة هذا الجسد الامني بعد ان ضاقوا ذرعا بقهره لهم وتفننه في اساليب ابتزازهم واحتقارهم واذلالهم وتعمد الاساءة إليهم بممارسات استفزازية عند الحواجز ونقاط السيطرة وكان يتقصد عديد ضباطه وعناصره ان يطرقوا على العصب المذهبي للايغال في الطعن وجرح الكرامة الشخصية للمواطن، ولولاه لما سقطت مدن واستبحيت حرمات اهلها من قبل الارهابيين .


مثل هذه الصور ماتزال تحتفظ بها ذاكرة المواطنين في الموصل،ومع انهم تعالوا على جراحهم وسامحوا هذا الجسد الامني بعد ان تحرروا من سلطة تنظيم الخلافة ،إلاّ انهم لايستطيعون ابدا نسيان تلك الصور، فليس لارادتهم القوة حتى تمسحها من الذاكرة، لكن ارادتهم في الحياة ورغبتهم في ان يتواصلوا مع الاخرين من ابناء بلدهم وجلدتهم دون ضغينة واحقاد هي التي تدفعهم اليوم الى ان يطووا صفحة الامس ويسامحوا،لانهم في حقيقتهم وطبيعيتهم مثل غيرهم من البشر لايحملون كرها وبغضا متأصلا في طبيعتهم، كما روج اعلام السلطة وجيوشه الالكترونية. انهم مثل غيرهم من شعوب الارض، بينهم طيبون ومخلصون وشرفاء ومحبون لبلدهم، وهم الاكثرية، وبينهم اشرار ولصوص وخونة واراذل، وما من شعب يخلوا من كلا النموذجين، فلسنا ملائكة ولاشياطين، نحن بشر نحمل فينا نوازع وغرائز ورغبات ولو لم يكن هناك سلطة وقوانين تراقبها وتوجهها لتحولنا جميعا الى قتلة ولصوص وقطاع طرق نحتمي بقانون الغاب مثل ما كانت عليه البشرية في صورها الاولى قبل ان تتحضر وتتمدن وتضع القوانين التي تعاقب من يتجاوز على حقوق غيره وتنصف من يحترم القوانين ويدافع عنها .


اليوم بعد ان جمعتهم القسوة المسلطة على رؤوسهم، والقتل الذي استهدفهم دون تمييز اتضح لكل العراقيين وليس للبعض منهم، انهم في مواجهة جهاز امني وعسكري اعمى، فاقد للبصيرة، خاصة في اللحظات التي يتهدد فيها النظام ،اوعندما تتعرض حياة الشعب للخطر، في كلا الحالتين يفقد هذا الجهاز الامني والعسكري قدرته على الرؤية كليا، ويهرب من مسؤوليته الاخلاقية والمهنية، وهذا لانه لايملك عقلا ولامنظومة عقائدية تضبط ردود افعاله وتحد من توحشه وتغوله، لانه مصاب بعماء مطبق في بصيرته الوطنية ويحتاج الى اعادة تأهيل من جديد على اسسس وضوابط اخلاقية ومهنية تضع حياة المواطن وكرامته قبل النظام الحاكم .

0 التعليقات: