أشجان النخيل منجز روائي مستوحى من الحياة المجتمعية في البصرة، الى حد ايام زمان كتبه الاستاذ المربي ابراهيم عبد الرزاق
أشجان النخيل منجز روائي مستوحى من الحياة المجتمعية في البصرة، الى حد ايام زمان
كتبه الاستاذ المربي ابراهيم عبد الرزاق
عراق العروبة
مهدي شاكر العبيدي
عسى أنْ يكون الكاتب ابراهيم عبد الرزاق موفقاً في إختياره هذه التسمية لعمله الروائي ، لعلــه الأول الذي استوحى فيه الحالة الاجتماعية لمدينة البصرة أيام الثلاثينيات من القرن الماضي ، حيث يسيطر اليهود على التجارة ويقيمون علاقاتهم بأناسها على وفق ما يرضي أهواءهم ورغباتهم ، وحيث ألفوا رؤية الجنود الإنكليز يفدون إلى أحيائها القديمة وإلى العشار المزدان بفنادقه الحديثة وشارعه الجميل المحاذي للنهر والمزدحم بالمارة والعابرين إلى الجانب الآخر باجتيازهم غير جسر من هذه الجسور العديدة التي يبدو أن تشييدها ونصبها عمل سهل لا يقتضي نفقات باهظة ، لأن النهر الجاري في هذه الأنحاء غير متناهٍ بالعرض، ويرمز وجود أولاء الغرباء أن البلاد ترزح تحت الاحتلال وتقاسي ويلاته كما يعي ذلك ويفقهه المتنورون والمثقفون دون أنْ ينطلي عليهم ما يلهج به حكامها من أن معاهدة تحالف تصلنا ببريطانية، وأنْ يجوب جندهـا أنحاء من ديارنا ، هو أمرٌ لا يشين سيادتنا وينتقص منها أبداً ، هذا إلى أنـه صور عيناتٍ شتـى من السلائق والأطوار والطبائع الغالبة على الناس إبـان تلك العهود المنطوية قبل أنْ تتعقد حياة الأجيال اللاحقة. فلا جرم أنْ يحـن إليها المتقدم في السن ممن أدرك حياة الجيل المتأخر .
وقد استهل حكايته من نهايتها مدللاً على معرفته بقواعد فن الرواية وأصولها ، وضمَن لها استهواء القارئ لها وتشوقه للاحاطة بمجرياتها وتفصيلاتها تدور حول محام ٍاسمه (منصور ابراهيم المرزوق) تخرج به زوجه (أنيسة) متجهة نحو عيادة طبيب الأسنان بعد أنْ مر زمن غير قصير على استقرارهما في منزلهما الجديد الذي لم يمرا به أثناء اشتغال العملة بتشييده على قطعة أرض أورثهما إياها عمـه المتوفى (الحاج محمد المرزوق) . وكان مُيسر الحال رؤوفاً بذوي قرباه ولا يني في إسعافهم ونجدتهم ، وأشرف صديق عمره (القاضي يوسف عبد الجبار) على إنشائه ودأب على تفقده قبل مباشرته دوامه وعودته منه.وأتى إليه منصور بعد الانتهاء منه وسكنه بدون أنْ يستلفت نظر أحدٍ ، عدا ما أوغل فيه بعض أصدقاء جاره (الأسـتاذ صالح) من لغو وثرثرة في مقهى البلدية حيث يلتئم شملهم فمنهم مـَن استفهم عن شغله وهويته وعدد أفراد من يعيل .
ومن هذه العصارة المستخلصة باقتضاب وإيجاز ينبري الكاتب لسرد وقائع روايته ويتقصى فيها شيئا من التاريخ ويستحضره ، إذ الحرب العالمية الثانية جلبتْ معها الغلاء وندرة ضروريات المعيشة ، وافتقار كثير من الأغنياء والموسرين ، بينما تحسنت حال بعض من أحسنوا اغتنام الفرصة واستعملوا ذكاءهم فاثروا واكتنزوا وتنعموا .
والتقى الصديقان (منصور ، ويوسف) على مقاعد الدراسة في مراحلها الثلاث ، وانتظما أخيراً في كلية الحقوق ، وانتويا الاشتغال بالمحاماة بعد تخرجهما ، كما تراود هذه الأمنيات والأحلام سائر أندادهما وأقرانهما في مثل طراوة عودهم . وناهيك بما حكاه المؤلف وصوره من مآس ٍورزايا خارجة عن يد أي إنسان ، فقد فقدَ (منصورابراهيم) والديه وهو لا يزال طفلاً بحاجة لمن يحدب عليه ويرعاه ، فيقوم عمه(محمد المرزوق) بشؤونه ، وهو ما يفتأ حافظاً له هذه العارفة ، رغم انــه صُدِم في عنفوان شبيبته وأهليته للاستقلال بنفسه بأنْ أقدَم هذا العم الموسر على التزوج من (أنيسة) التي يحبها وسمع به عندما كان مقيماً وإلفه في دارة (أم خاجيك) في شارع حسان بن ثابت ببغداد ، وهو يدرس الحقوق ، فيتوسل لقطع آصرته بالبصرة بأنْ يختلق الدواعي والمسوغات لسكنى العاصمة ، من قبيل وجود غير مكتبة عامة تفي بحاجته إلى المظان والمصادر ، وبغداد يومذاك تموج بالمظاهرات التي استدعتها مستجدات ما بعد الحرب العالمية الثانية ، إذ استنفر العراقيون عزمهم على إحباط معاهدة بورتسموث المبرمة بين الساسة في كلا البلدين ، وقد أسهم طلبة الحقوق في تأجيج هذه المظاهرات ووقع من وقع بأيدي الشرطة وأودع التوقيف ، وكان صديقه (يوسف) أحد الموقوفين ، فحار بإطلاق سراحه وهداه تفكيره إلى (الحاج إسماعيل) صاحب الفندق الذي نزلا عنده وأقاما بضعة أيام قبل أربع سنوات أيْ في بداية قبولهما في الكلية ، فوجد في هذا الرجل الطيب ، الذي ينتقد الحكومة ويذم تعسفها وبطشها بالشباب ، غير أنــه ينصح باجتنابها وتحاشي الاصطدام بها ، ويوصيهم بأن ينصرفوا للدراسـة ، على أية حال قلت وجد في هذا الرجل المستجمع في شخصه للمفارقات والنقائض كل ما يبغيه من عون ومساعدة أو ينشده من غوث وحمية ! .
وهذا الانفتاح على حوادث الوثبة بشكل غير مقحم ولا مفتعل والذي يزيد الرواية تماسكاً وتدفقاً وحيوية وإهابة بالقارئ كي ينغمر في وقائعها وماجرياتها المجسدة في أسلوب بسيط وعبارة مهذبة سلسة خالية من التنطع والحذلقة ، في حال من نسيان المؤلف نفسه انــه ينشىء أسلوباً ويصوغ عبارة ، قلت ينظر إلى صنيع ذنون أيوب في إقحامه ظروف الوثبة وزجها في روايته ((اليد والأرض والماء)) ، فاستفاضته في الحديث عن مشروعه الزراعي وحاجته إلى الماء الذي احتكره غيره من المتحكمين الأقوياء .
تلك لوحات اجتزأتها بصـورة مقتضبة وموجـزة للكثير من الحوادث والوقائع والمواقف والاستجابات النفسية حيال التحولات التي طرأت على المجتمع البصري الذي عانى مثل بقية فئات الشعب العراقي ومراتبه من المفارقات والمدهشات التي لونت حياته وبدلت من عاداته ، طوال حقبة تنوف على العشرين سنة ، وهو الزمن الذي تتابعت فيه حوادث الرواية وتتالت وقائعها ، ورام مؤلفها أنْ يرصد فيها لما يعتري النساء ويستولي عليهن من هَم ٍوكآبة ، جراء فقد الزوج ، دون أنْ يعني أن ذلك شيءٌ طبيعي لا ينبغي تحميله أكثر مما يستحق ، بل يحسن أنْ نستدبره بشيء طفيف من الشجن ، وحتى عياف بعض متع الحياة ، كي لا يعجل ذلك بتوديع جنازة أخرى ورحيل ثان ٍ ، كما حصل ل (أم منصور ابراهيم) التي سرعان ما لحقت بزوجها ، مما يذكرنا بمضمون رسائل بطل رواية((في قرى الجن)) لجعفر الخليلي الصادرة بطبعتها الثانية سنة 1949م ، حيث ندد المخطوف إلى عالم الجن بما يسود عالم الأنس من تقاليد وأعراف .
وثمة رؤية فلسفية استبانت في هذه الرواية المستوفية شروط القص والسرد الفنيين على نحو يشوق القارئ ويستهويه ، رغم الحكايا الكثيرة وتعدد الأسماء ، ألا وهي توقفه عند مسألة الموت وإيحاؤه أن كل شيء زائل لكن الحياة تجري على رسلها ، فبعد موت والديه يموت (عـمه والخادم مبروك وزوجته درة) ، واخترمت حتى (بدرية) التي يدعوها خالتي ، وهي زوج (عبد المعبود) معاون عمه في إدارة أعماله فهي ما زالت شابة خلافاً للحاجة (نجية) زوج عمه التي أشارت عليه بأنْ يبحث له عن زوجة غيرها لتداريه وتهيئ له جواً من الراحة ، يتوارى كل أولاء الشخوص ليستأنف جيل ثان ٍصنع مصيره في الحياة ، فـ (يوسف) يرزق بولده (عامر) بعد زواجه ، ويشق الأخير طريقه إلى كلية الطب حيث يلتقي (نهاداً ) ويهيم بها ، وهي بنت (شيخة) و(شيخة) هاته هي ابنة عم (يوسف) والتي استقبح منها وفيها هذه التسمية ، فاعرض عن البناء بها وتزوجها غيره ، فكانت (نهاد) ثمرة هذا الزواج ، مما يذكر بحبكة ابراهيم عبد القادر المازني الرشيقة ونسجه لأحدى قصص ((خيوط العنكبوت)) ، فقد أحجم عاشقان وزهداً في الألفة لدواع ٍشتى بينما تحققت رغبتهما في الامتزاج بأن تدانى فردان من نسلهما . وهذه الحبكة في النسج الروائي قد لا تكون مصطنعة مثل نظيرتها التي قد لا تكون منتحلة هي الأخرى ، أريدَ بها أنْ تجيء لامة ً لشخوص القصة بعد تباعدهم في صنع حوادثها ، على غرار ما نشاهده طاغياً على بعض المسلسلات المصرية ، (فطارق عبد الكريم) هـو ابن (طيبة) الذي احتفلت جدتـُه (رازقية) بمناسبة ختانه ، فأقامت مولوداً دعتْ له جميع معارفها من النساء ، وحضرت فيه (أم يوسف ، وأم منصور) واصطحبتاهما معهما ، وجاء (طارق عبد الكريم) بعد عشرات السنين وقد غدا قاضياً ليشهد على عقد زواج المحامي المتقاعد (منصور) من (أنيسة) بعد أنْ ترملتْ . والزواج الثاني صيانة وسترة كما يقولون ، وقد كدنا ننسى (رازقية) بعد أنْ ألممنا بوصف ما جرى في المولود وصدحت به الحناجر من ترانيم وأغان ، في الصفحات الأول من الكتاب صور متنوعة ومتعددة من الحياة الشعبية التي عاش فيها المجتمع العراقي ، أحسن كاتب هذا العمل الروائي الممتاز تقديمها بغاية ما تأتى له وأوفى عليه من براعة التصوير وبساطـة الأداء في وقت ٍمعاً ، بقدر ما مثل تكذيباً ، ورداً على قول الشاعر اللبناني أمين نخلة بكتابه (في المفكرة الريفية) ” إن ما يقع في الأدب لا يقع في الحياة ” .
0 التعليقات: