أخر الأخبار

.

مختارات سياسية من مجلة المنار



مختارات سياسية من مجلة المنار


عراق العروبة
مهدي شاكر العبيدي


تعدَّدَتْ أسماء الدَّارسين والمصنفين والمحققين لكتب التراث القريب والبعيد في الوطن العربي بعد غياب كثير من الأسماء اللامعة في العقود الماضية ، فانبرى تلاميذهم ومريدوهم من الأجيال الجديدة لاستئناف ما كانوا يضطلعون به من مهمَّات ثقافية مترسِّمينَ خطاهم ومستهدينَ بتجربتهم وحائدينَ قدر الإمكان عمَّا وقعوا فيه من عثرات واجترحوه من هنوات في استقراءاتهم واستنتاجاتهم ، ولوحظ أنَّ بعض أولاء المشتغلين بالبحث والتحقيق والتدقيق قد يحملون ألقابا ً وأسماء لا تخلو من غرابة ومباينة لما غلب على أعلام الجيل القديم من أسماء وألقاب معتادة ومألوفة ، وحسبنا أنْ نستقري الفهرسْت لدورية أو مجلة ( الفكر العربي ) ، فسنمنى بالدَّهش والاستغراب ، لا من جدة الموضوعات والآراء التي ينطوي عليها ، بل أنَّ كاتبيها ومعديها يسمون بأسماء لا عهد للقارئ بها ، ولعلَّ انفتاح القارئ العراقي على النتاج الفكري والأدبي في أطار المغرب العربي وبعض أنحاء الجزيرة العربية ، هو مبعث ذينك الدَّهش والاستغراب ، بعد أنْ كان إطلاعه محدودا ً ومقتصرا ً على النهل من أدباء مصر والشَّام .

وجيه كوثراني اسم ولقب جديدان قدمته أو قدمتهما دار الطليعة للطباعة والنشر في بيروت إلى الوسط الثقافي والفكري والسِّياسي من خلال إنجازه المتميِّز بتقديم عينة من مقالات رشيد رضا ودراستها وتحليلها وتمحيص نظراته في أحوال الواقع العربي والإسلامي في عصره وما يرتئيه من مقترحات وحلول وسبل ووسائل في تعديلها وإصلاحها .

الزَّمن كان زمن الدَّولة العثمانية وهيمنتها على الوطن العربي ، ومن نافلة القول أنْ نعيد الكلام على مساوئ ذلك العهد أو نفيض في ما تخلله من وقائع وحوادث أبينها الانقلاب الخطير وإعلان الدُّستور ، وما رافقه من فرح وتهليل إلى أنْ استهدف الرَّيب والتساؤلات العديدة عمَّن اشترك فيه أو كان وراءَه من جهات ومحافل وما ترمي إليه من مرام ٍ وأغراض ، ورشيد رضا من مواليد إحدى القرى اللبنانية القريبة من طرابلس الشَّام عام 1765م ، وتلقى علومه ومعارفه في اللغة العربية والفقه وعلم الكلام والحديث والفلسفة والرِّياضيات في مدارس عدَّة بمدينة طرابلس حيث كان أشهر أساتذته وأبرز علماء عصره الشَّيخ حسين الجسر .


وسخط على مظالم العثمانيينَ ومجافاتهم لتعاليم الدِّين وتنكيلهم بطلاب الإصلاح فقرر الهجرة إلى مصر لما أنبئ عن الحرية النسبية التي يعيش في ظلها أضرابه وأنداده من حملة الأقلام ، فوصل ثغر الإسكندرية يوم 3 / يناير عام 1898م ، والتقى في القاهرة بالشَّيخ محمد عبده وعمل بمشورته في إصدار ( المنار ) جريدة فمجلة استمرَّتْ تصدر تباعا ً حتى عام 1935م ، و لم يعدْ إلى لبنان إلا مرَّة واحدة أو مرَّتين ِ غبَّ سقوط السُّلطان عبد الحميد العثماني ، مجدِّدا ً عهده بمعاهدها ومنتدياتها ، وصلته بأعيانها ورجالاتها من شتى الجماعات والطوائف حاثا ً إيَّاهم على الوفاق والتضامن والتصافي و نبذ الحزازات والولاء لرابطة الوطن الواحد .

ومنهاج مجلة المنار الذي ترسَّمته وجرَتْ عليه خمسة وثلاثين عاما ً نشْرُ الثقافة الإسلامية وإلزام أفراد المجتمع بأوامر الدِّين ونواهيه في تصرُّفاتهم ومسالكهم العملية ، ولا بأس من التأثر بمدنية الغرب والأخذ بالنافع المفيد من مظاهر حياته وتحاشي المضار والمفاسد وغير الملائم من عاداته ومواضعاته ، لما درجنا عليه من خلق رضي وفطرة نقية .

وماذا جدَّ في حياة المصريينَ طوال السِّنين السَّبع والثلاثين وفي المجال الثقافي على وجه الخصوص ؟ .

لقد حفلتْ تلك السَّنوات بالتحولات الفكرية والمعارك الأدبية وتصارع التيارات والمذاهب وتأسيس الجامعة المصرية واندلاع ثورة عام 1919م ، فمفاوضات الجلاء وبروز جمهرة من الكتاب المستنيرينَ ، أمثال :ـ لطفي السَّيد ، وطه حسين ، ومحمد حسين هيكل ، وإبراهيم عبد القادر المازني ، وعباس محمود العقاد ، وسلامة موسى ، وغيرهم ، لقد كانت حياة مائجة بالحركة والنشاط موارة بالعنفوان والرَّهج ، ومن بين وقائعها وملابساتها معركة الشِّعر الجاهلي وصدور جملة من الكتب الدَّاحضة والمعترضة على ما أثاره مؤلفه في الوسط الأدبي والحياة الاجتماعية ،

ومعركة عن ( الإسلام وأصول الحكم ) إثر صدور كتاب الشَّيخ علي عبد الرَّازق في إثبات أنَّ الخلافة ليسَتْ من صلب الدِّين ولا هي أساس ثابت من أسسه وأصل من أصوله أو قاعدة من قواعده ، فضلا ً عن معركة سبقتهما في العقد الأوَّل من القرن العشرين حول حرية المرأة وما صدر عنها من آثار وأدبيات غبَّ واقعة دنشواي ذات الأثر البَيِّن في تزايد نقمة المصريينَ على المحتلينَ وتكييف نظرة المثقفينَ لا سِيَّما الشُّعراء والكتاب حيال المعتمد البريطاني الجنرال كرومر وتفاوتها بين الانخداع بما أشاعه من حرية مزعومة للصَّحافة ومن الكفر بها ورفضها أصلا ً .

فما فاعلية صاحب ( المنار ) في هذا المزدحم من التأسيس والتنظير والتأصيل والتأويل والتوعية ؟ .

هلْ سمحَتْ الأجيال المتعاقبة من أبناء مصر بأنْ يدعو لمشروعه ويروِّج لدعوته بحرية تامة ومطلقة ، فلا يحس بتضييق أو يصادف عوارض ومثبطات ، وكأنـَّه منهم في الصَّميم ، أو ذاب في مجتمعهم وتقطعَتْ جذوره وأعراقه بأصوله ومنابته الأولى ؟ .

وهل كان الوريث الشَّرعي لرسالة محمد عبده وتبنيها في الانفتاح على مصادر العلم والأخذ بمناهجه وعِياف حياة التواكل والوهن والقعود عن الطموح مع التصدِّي لتفنيد الأراجيف والمُدَّعيات الباطلة المتهافتة التي يشيعها بعض المستشرقينَ وتختلقها ظنونهم وأوهامهم حول الإسلام وتحميله تبعة تأخرهم وعجزهم عن اللحاق بركب الإنسانية ؟ .

فبعد أنْ أعلن الشَّيخ المفتي رحمه الله تطليقه للسِّياسة وانصرافه للعمل المجدي في حقل التربية والتعليم وإصلاح الجهاز القضائي وتنشئة أجيال جديدة تناط بذمَّتهم وعزيمتهم مصاولة الاستعمار الأجنبي إنْ سنحَتْ الظروف دون أنْ يضاروا بما نـُكِبَ قبلهم به أنصار الثورة العرابية من الانكسارات والهزائم ، أو يمنوا بأيسر قسط منها في حالة فشلهم ونكوصهم ، نلفي هذا الشَّيخ الذي امتدَّتْ حياته إلى ثلاثين عاما ً بعد رحيل قدوته ومغادرته هذه الدُّنيا عام 1905م ، جمَّ الاهتمام بالسِّياسة وشؤونها يتفتق ذهنه دواما ً عن جملة من المقترحات والمناهج والطرائق والحلول لما يعانيه العرب والمسلمون من معضلات ومشكلات بسبب التدخـُّل الأجنبي في شؤونهم واختلاقه المصاعب والأزمات أمامهم لتعوقهم عن تلمس الدَّرب والاهتداء إلى الخلاص ممَّا يكتنف حياتهم من شرور وآثام وسوءات ، فضلا ً عن التشاحن والاحتراب بين رؤسائهم وولاة أمورهم ، وتعدُّد وجهات النظر والرَّأي ممَّا يدلُّ به المتطفلون وذوو الأغراض والمتطلعون إلى الجاه والمنصب وغيرهم من المتصدِّرين وزعماء الطوائف والهيئات الاجتماعية المختلفة ، فإذا هو حُوَّل قـُلـَّب سريع الانتقال من رأي إلى نقيضة ، والاختلاف من موقف إلى مباينه تماما ً ، إنـَّه راسم الخطط والبرامج لما ستؤول إليه حياة اللبنانيينَ والسُّوريين والمصريينَ والنجديينَ والحجازيينَ والعراقيينَ مستقبلا ً ، أو داعية لا يدَّخر وسعا ً في المناداة لتنصيب هذا الحدث القليل الخبرة بالناس والأيَّام ، وتوليته هذا القطر أو ذاك لمجرَّد معرفته بأنـَّه أمير وإنْ لم يدرج بين أهله أو يكن من مواطنيه الأصلاء ،

ويبلغ من تعنته وتحمُّسه بل وغلوه وشططه واعتقاده بصواب رأيه ، أنْ يجهر بالعداوة لمَن أعلنوا الخصومة والمناوأة والثورة على العثمانيينَ قبل وقتٍ قريب ، علما ً أنـَّه خصم قديم لهم ، فكان ينبغي له أنْ يعرف من نفسه إلا ً وذمَّة ، فيجافي أضدادهم في النزعة والموقف ، فلا يركب الموجة ويهيب بالهيئات والجماعات لحضور مؤتمر الخلافة مناصرا ً الجماعة الوهابية ومبايعا ً بالخلافة لآل سعود بعد أنْ نصل منها الترك وانبتتْ صلتهم بها في الحوادث والوقائع المعروفة ، وخفَّ لها غير قناص في مصر وغيرها ، هنا نتعرَّف على واحد من كتاب مصر ومفكريها في العشرينات ، يتخذ من مؤتمر الخلافة مبعثا ً لسخريَّته وتهكمه ، فينشر مقالا ً مندِّدا ً بالدَّاعين له ، طاعنا ً بتوجهاتهم ونيَّاتهم منه ، متجاوزا ً ذلك إلى الافتيات عليهم والاسترابة بسلائقهم وخلائقهم ، هذا الكاتب المجترئ هو إسماعيل مظهر محرر جريدة أو مجلة ( العصور ) يومذاك ، وقد جُمِعَتْ كتاباته في كتب منها ( النقد الأدبي ) ومن فصوله ذلك المزدري المسفـِّه لمؤتمر الخلافة.

ما سقناه هو هوامش وتعليقات على مجهود الأستاذ وجيه كوثراني المتخصِّص بتاريخ نهضة العرب في هذا العصر الحديث ، في إحياء بعض مأثورات الشَّيخ رشيد رضا الذي لقي في مطالع حياته من تعسُّف العثمانيينَ ومحاربتهم له ولذويه ما لقي منذ أنْ تنبَّه على عنفهم وتجبُّرهم ، فانتوى أنْ يقف في الجانب الرَّافض لكلِّ استبداد وقهر وتسلط ، وأقحم نفسه على التيارات السِّياسية المتلاطمة ، وحسب عليه الكثير من السَّقطات والأخطاء ، ومُنِي في الوقت ذاته بالحسَّاد والمنافسين ، وبقي له صحبته للشَّيخ محمد عبده ومذكراته عنه ، وتحقيقاته العلمية لبعض مصنفات التراث العربي بمعاونة الشَّيخ ، وعضده لهذا المشروع الثقافي لا سِيَّما منه ( أسرار البلاغة ) ، و ( دلائل الإعجاز ) ، ممَّا استوعبه وأثر فيه وطبع به بيانه فزاد سلفية فوق ما هو عليه من سلفية معهودة .

0 التعليقات: