أخر الأخبار

.

مذكرات منسية


مذكرات منسية

عراق العروبة
مهدي شاكر العبيدي



حافظ محمود صحفي مصري مثابر لكنـَّه غير معروف أو مشهور لدى القرَّاء خارج مصر ، وفي هذا يدخل الحظ في تقسيم الأدوار والأنصبة ، فرغم سبقه أحمد بهاء الدين بأكثر من عقد من مزاولة العمل الصُّحفي ، فإنَّ الأخير يبذه شهرة ويفوقه في الانتشار وتداول القراء في عموم الوطن العربي لكتاباته وموضوعاته ، ربَّما لمسايرتها الأحوال العامة واهتمامها بالقضايا الدُّولية ، مع أنـَّه يربي عليه في اتصاله الوثيق مذ عهده الأوَّل بهيئة تحرير جريدة ( السِّياسة ) ومجلتها الأسبوعية ، ومنهم الرَّائدان :ـ محمد حسين هيكل ، ومحمود عزمي ؛ وكفى بهذه الرَّابطة أنْ تدني المرء من مصادر الثقافة ، وتطبعه على معاناة الجهد والدأب والاستمرارية ، ويتخذ من ذويها قدوته في الممارسة والإتقان ، وبلغتْ ثقة الدكتور هيكل بإمكانياته وقابلياته واطمئنانه على قيامه بالوجائب ونهوضه بالأعباء حدا ً أنْ وكلَ إليه رئاسة تحرير مجلة ( السِّياسة ) غداة استيزاره سنة 1938م ، لذا أخاله اليوم في عداد المنطوين في مدارج الخلود بعد سنوات تحفل بالمدهشات والغرائب ، فإنَّ آخر ما أصدره كتاب ( مذكرات منسية ) ذو العدد ( 189 ) من سلسلة الكتاب الذهبي ، و ( عمالقة الصَّحافة ) ذو العدد ( 284 ) من سلسلة كتاب الهلال .


يبين مؤلف ( مذكرات منسية ) أنـَّه وثيق الصِّلة والارتباط بالوسط الفكري والسِّياسي السَّائد في مصر قبل ثورة يوليو 1952م ، فهو يقدم صورا ً وألوانا ً من حياة مجتمعه إبَّان تلك العهود المنطوية ليستدل القارئ منها ويكتنه ما يسودها من مفارقات ونقائض ، ويغلب عليها من اختلال المقاييس وعدم النصفة في كلِّ شيءٍ ، فالغبن والإجحاف والشُّعور بالإحباط آفاتٌ تصيب دائما ً من هو في غير حاجة إلى الابتلاء بها في حال ، بينا تجري الحياة رخاء وتصفو طيباتها لمَن لا يفوق سواه موهبة أو يتميز عنه بسجاحة خلقه ورجاحة عقله .

ذلك باختصار شديد ما سطره من مذكرات على ألسنة طائفة من أفراد الشَّعب المصري منهم الطالب واللغوي ومقامِرة وجرسون ومفتش مقاهٍ وفنانة ومدرِّسة ، وغيرهم من يربون على هذا النفر أو الصِّنف من الناس في الوجاهة والصُّعود في السُّلم الاجتماعي ، كلُّ هذا والكاتب يزعم أنها ليسَتْ مذكراته بقدر ما هي مذكرات خليط عجيب من الناس الذين عاش بينهم منذ جيل مضى ، وذلك عبر مقدِّمة كتبها وأنبأنا فيها عن أهمية المذكرات وفائدتها في سبر الحقائق التاريخية ومعرفة حياة من سبقونا إلى معاناة تجربة الزَّمن وكيفية تصرُّفهم فيها ومعها مستطردا ً إلى نماذج وشواهد من الذكريات المتداولة من لدن عموم الناس للإطلاع واستلهام الدُّروس والعبر منها ، وكذا يعد منها ( مذكرات في السِّياسة المصرية ) للدكتور محمد حسين هيكل وما سبقه من رسائل مصطفى كامل ومداخلات صنوه محمد فريد وما توفر سعد زغلول على كتابته من شرحه وقائع صراعه مع الإنجليز ومنافسيه من السِّياسيين في مصر ، وقبل هؤلاء جميعا ً يجيء الجبرتي في القرنين ِ الثامن والتاسع عشر والذي مثل كتابه الموسوم ( عجائب الآثار في التراجم والأخبار ) ، فكان غير مرضي عنه من قبل الحُكـَّام ، وكأنْ أحسَّ أنَّ القارئ قد لا يروقه أو يشوقه التعرف والإحاطة بهذه العينة من المذكرات المرتبطة بالسِّياسة ووقائعها ، فنزع لتعريفه بمؤلفات تتسم بالأداء الفني ويميزها شيء من الأسر والطلاوة ، فمثل لذلك بكتب :ـ ( من حديث عيسى بن هشام ) للمويلحي ، ( الأيَّام ) لطه حسين ، ( تربية سلامة موسى ) ، ( يوميات نائب في الأرياف ) لتوفيق الحكيم ، و ( إبراهيم الكاتب ) للمازني ؛ ليخلص من بعد إلى أدبيات أو محاولات أدبية أصدرها أدباء مجهولون محتفظة بمسمياتها الأصلية ، منها :ـ ( مذكرات عربجي ) التي تتضمَّن شرح حال الكادح المكدود في الزَّمن البعيد وعرضا ً لأنماط من سفاهته ومباذله ، ويبلغ من التظرف حدا ً فائقا ً ويطلعك على كتيِّبٍ عنوانه ( مذكرات مومس ) عُنِي فيه بتقديم خلاصة دقيقة لأخلاقيات المجتمع المبتلى بغزو الأجانب ، راميا ً منها التدليل على أنَّ كتاباتٍ كهذه قمينة أنْ تعد من الوثائق التاريخية بعيدا ً عن الأسلوب التقليدي الذي اعتاده المدونون السَّابقون ، وما جروا عليه من عناية بالسَّرد والتحليل ، فلجأ إلى القصِّ والحوار متوخيا ً أنْ ينسيك كونك تقرأ كتابا ً تاريخيا ً محتويا ً على رأي أو وجهة نظر بصدد الحوادث والمنازلات والمواقف الحاسمة ، وذي خطة وضربٌ من التأليف كفيل برفدك وإطلاعك على حياة المجتمع من خطوب ورزايا ومآس ٍ أو اكتنف نفسيات غالبية الأفراد فيه من عُقدٍ وتحفظاتٍ لما يعتورهم من إحساس أنَّ حقوقهم مغصوبة وأنـَّهم دون الخلائق ومعاشر الآدميين الدَّارجين في المسكونة في كلِّ شيءٍ ، فلا مراء أنْ حفل بإشاراتٍ إلى صِدَام الجمهور المتململ بالغاصب المحتل ودوره في قراع الغاصب الإسرائيلي للدِّيار المقدَّسة فلسطين التي كانتْ جزءا ً في التاريخ البعيد والسَّحيق هي وأراضي الشُّعوب العربية من الدَّولة الإسلامية المتوحدة في عهود المماليك ، كما زخرَتْ بإلماع وتنويه بفجائع وكوارث عصفتْ بحيوات فئات من المستضعفينَ والأردياء وأودَتْ بهم إلى حالة لا يحسدون عليها من الوهن والانخذال ، وكأنـَّه أراد أنْ يوحي لقارئه أنَّ الكتابة التاريخية لم تعد وقفا ً على حياة ذوي النفوذ والإمرة ، بلْ تتعداها إلى حياة المرزوئينَ والمنكوبينَ والمحرومينَ من لبانات العيش وطيباته .

وأنْ يزخر الكتاب بأسماء رعيل من أعلام الفكر وأساطين الثقافة فإنما يدل على اطلاعه الجم وإلمامه بنتاجاته الطائلة والثرة ، وأبين ما نلفي ذلك ماثلا ً في مذكرات مفتشي المقاهي ، وحامل هذه التسمية الفضفاضة لا يعدو أنْ يكون طالبا ً عاكفا ً على دروسه ، حتى إذا فرغ من استذكاره شرع بجولة بين أنواع معينة من مقاهي القاهرة في الجيل الماضي ، كانت محلا ً مختارا ً لفئات معينة من رجال الفكر وفي وسطها تحتدم مجادلاتهم ومناقشاتهم ، وكذا تطالعنا أسماء محمد الهراوي ، ومحمد الأسمر ، وكامل الكيلاني ، وأحمد شوقي ، وحافظ إبراهيم ، وسعيد عبده ، وأحمد زكي الملقب بشيخ العروبة ، ومحمد التابعي ، ومحمد المويلحي ، وعبد العزيز البشري ، وفكري أباظة ، وغيرهم من الأدباء والصُّحفيين ، فضلا ً عن السَّاسة المعروفين وقتذاك ، أمثال :ـ أحمد ماهر رئيس الوزراء القتيل في منتصف الأربعينات من القرن الماضي ، وحمدي الباسل وكيل حزب الوفد يومها ، وكان يتردَّد على بار اللواء بزيه العربي ليتبارى مع حفني محمود ( شقيق محمد محمود ) زعيم الأحرار الدُّستوريين ، مع أنهما مختلفان رأيا ً ومتباينان في عقيدتهما ونزعتهما .

والحديث عن المقاهي حديث شائق ومفعم بالبهجة ودواعي الانشراح والأنس إذ يتضمَّن استطرادا ً أو خوضا ً في شؤون الأدب والفنِّ والصحافة ، ومن هذه المقاهي :ـ بار اللواء ، ومتاتيا ، والفيشاوي ، والمعلم ماما ، ودار الكتب ؛ فهنا انتشر الوعي السِّياسي وازدهرَتْ الثقافة وتمرَّس الجُلاس بآداب الحديث والمناظرة .

أما كيف أمضى مفتش المقاهي سهرته مع أحمد شوقي الذي تفصله عنه عقود من السِّنين ، فإنَّ الفضل فيه يعود إلى الطبيب سعيد عبده وكان طالبا ً في أواخر العشرينيات من القرن المنصرم ، هو مع اتجاهه وتخصصه العلمي يجيد نظم الأشعار والأزجال بالعامية لدرجة أعجبَتْ أمير الشُّعراء فصار من أصفيائه وعشرائه ، كما يلتقي في الجلسة عضو البرلمان محمود فهمي النقراشي والطبيب محجوب ثابت الذي هجر مهنته الأساسية وتزعَّم حركة العمال .

وقد يكون هذا الفصل ملفقا ً ومبتدعا ً في فحاويه وحكاياته ، وحسبه أنْ ينقل لنا الجوَّ الثقافي العام وما تعمر به نفوس المثقفينَ من أمان ٍ وتطلعات وأشواق ، وعلى ذكر الدكتور سعيد عبده فقد عمر بعد شوقي عقودا ً من السِّنين في القرن الماضي وتخصَّص في مرض البلهارزيا الذي فتك في العهود الماضية بأرواح الملايينَ من أبناء بلاده الفقراء والمحتاجينَ ، وهو إلى جانب نظمه للزَّجل وكثرة المعجبينَ بإبداعه في هذا المجال ، فإنه برع في كتابة القصة القصيرة مؤثرا ً أنْ يجود فيها على قلة بضاعته منها ، وأذكر أنـَّه وافى جريدة أو مجلة ( الهاتف ) بعينة منها عام 1949م ، نـُشرَتْ في كتاب ( حولية الهاتف القصصية ) وتكفل صاحب ( الهاتف ) المرحوم جعفر الخليلي بتقديمه للقرَّاء من خلال صورة قلمية رسمها له كونه ذا مواهب متعدِّدة واهتمامات شتى ، هذا إلى أنـَّه عمل في العراق ـ على كِبر وفي سن متقدِّمة ـ أواسط ستينيات القرن الماضي طبيبا ً في أحد مستشفيات كركوك .

وأجدني في غير حاجة ـ بعد هذا التفصيل ـ للثناء على لغة الكاتب الصُّحفي حافظ محمود من ناحية استيفائها للسَّلاسة والعذوبة واستهواء القرَّاء لما يزيِّنها من هذه الخلابة الفنية المرادفة للصِّدق الشُّعوري الجيَّاش ممَّا لا يبلغه الكـُتـَّاب ويوفقون منه إلا إذا جانبوا التكلف وزهدوا في الحذلقة والتنميق .

تمنيْتُ أخيرا ً لو انصرف واحد من صحفيينا أو أدبائنا إلى استلهام وقائع الماضي القريب وانغمس في تصويرها موحيا ً بما تنطوي عليه من عبر ودروس ، متوقلا ً في ذلك على هذا الضَّرب أو اللون من الصِّياغة اللغوية الآسرة التي تدق على كلِّ وصفٍ وتحديد وإجمال لمياسمها وميزاتها ، بدلا ً من أنْ يساور الوهم نفسيات بعضهم ، ” إنَّ ما أتوا به لا يستطيعه غيرهم ” ، كما جهر أحد الأساتذة الدَّارسين مؤخـَّرا ً ، ولو استحدثتْ إدارات صحفنا اليومية أو الأسبوعية دور نشر أدنى نشاطا ً لكنـَّها ملحقة بها لتصدر مطبوعات وأدبيات تطلُّ بها على الوسط الثقافي على شاكلة كتاب ( مذكرات منسية ) وأضرابه محبوكة بهذا النسج الرَّائع والأداء الرَّصين والكفيل بأنْ ينسيك كونك تطلع على لغة أو تتملى أسلوبا ً ما دام وكد كاتبيه فيه أنْ يتوخوا اليسر والسُّهولة والبساطة .

0 التعليقات: